:
ثم إن التسامح الديني والفكري له درجات ومراتب:
فالدرجة الدنيا من التسامح:
أن تدع لمخالفك حرية دينه وعقيدته،
ولا تجبره بالقوة على اعتناق دينك أو مذهبك.
والدرجة الوسطى من التسامح
: أن تدع له حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب،
ثم لا تضيق عليه بترك أمر يعتقد وجوبه أو فعل أمر يعتقد حرمته.
فإذا كان اليهودي يعتقد حرمة العمل يوم السبت،
فلا يجوز أن يكلف بعمل في هذا اليوم
، لأنه لا يفعله إلا وهو يشعر بمخالفة دينه.
وإذا كان النصراني يعتقد بوجوب الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد،
فلا يجوز أن يمنع ذلك في هذا اليوم.
والدرجة التي تعلو هذه في التسامح:
ألا تضيق على المخالفين فيما يعتقدون حله في دينهم أو مذهبهم،
وإن كنت تعتقد أنه حرام في دينك أو مذهبك.
وهذا ما كان عليه المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة،
إذ ارتفعوا إلى الدرجة العليا من التسامح.
فقد التزموا احترام كل ما يعتقد غير المسلم أنه حلال في دينه،
ووسعوا له في ذلك،
ولم يضيقوا عليه بالمنع والتحريم،
وكان يمكنهم أن يحرموا ذلك،
مراعاة لشريعة الدولة ودينها
، ولا يتهموا بكثير من التعصب أو قليل
، ذلك لأن الشيء الذي يجله دين من الأديان ليس فرضا على أتباعه أن يفعلوه.
فإن كان دين النصراني
يحل له أكل الخنزير،
فإنه يستطيع أن يعيش عمره دون أن يأكل الخنزير،
وفي لحوم البقر والغنم والطير متسع له.
ومثل ذلك الخمر،
فإذا كان بعض الكتب المسيحية قد جاء بإباحتها،
أو إباحة القليل منها لإصلاح المعدة
، فليس من فرائض المسيحية أن يشرب المسيحي الخمر،
بل إن بعض المسيحيين يعتقدون حرمة الخمر في ديانتهم.
فلو أن الإسلام قال للذميين:
دعوا شرب الخمر،
وأكل الخنازير،
مراعاة لشعور إخوانكم المسلمين
، لم يكن عليهم في ذلك أي حرج ديني،
لأنهم إذا تركوا هذه الأشياء لم يرتكبوا في دينهم منكرا،
ولا أخلوا بواجب مقدس،
ومع هذا لم يقل الإسلام ذلك،
ولم يشأ أن يضيق على غير المسلمين في أمر يعتقدون حله
، وقال للمسلمين: اتركوهم وما يدينون!